• اكتب معانا
  • ماتنسناش
  • تابعنا
الموضوع اللي جاي
إيقاف العمل في مخابز ومطاحن العيش وأماكن التموين في مصر لمدة يوم بداية من الجمعة
الموضوع اللي فات
"الناس حطانا في صورة بوب مارلي ولازم نغني بالاصطباحة": حوار مع مؤسس هجين باند

"قصص الحب العظيمة لا تكتمل" 4 أفلام ليوسف شاهين لم ترَ النور

يقولون عجوز وخرف وممسوس بالحب والتفاهم، عجوز نعم، ولكن احذروا أن تطلقوا على الحب والتفاهم تخريف

"الأفكار ليها أجنحة محدش يقدر يمنعها توصل للناس"، تلك الجملة التي توجت نهاية فيلم "المصير" وتزين خلفية هاتفي المحمول، كانت أول ما رأيته لحظة دخولي الجمعية الملكية للأفلام في الأردن، تعلقت عيناي بها وابتسمت، فكرت: هل يعلم يوسف شاهين بعد 10 سنوات من غيابه عن عالمنا، أن كلماته مازالت تصل للناس ولا يمنعها أحد؟ وأن أفلامه لازالت تأسر أرواحنا؟

منذ عامين تقريبًا كان لي الحظ أن أحضر معرض نظمه "سيماتك" بالتعاون مع شركة مصر العالمية للأفلام، بعنوان "الأعمال غير المكتملة ليوسف شاهين"، وفي يوم الرحيل المؤلم، قررنا أن نحكي عن ما رأيناه يومها. اعتدت أن أؤمن إن قصص الحب الأعظم هي التي ظلت بلا نهاية، فكانت سيناريوهات "جو" التي كتبها بخط يده، دون أن تكتمل، هي قصص حبه الأعظم.

تلاحق يوسف شاهين أسطورة أن أفلامه لا يفهمها سوى النخبة، وأنها صُنعت للمثقفين، أراه يضحك حد البكاء من هذا الوصف. كان العامل المشترك في كل أفلام "شاهين" هو "الناس"، دائمًا ينتصر لهم وبهم. كان "جو" هو صوت العاشق الأعرج في "باب الحديد" وصورة الفلاح الفصيح في "الأرض"، صوت الكورال يتردد "الأرض لو عطشانة نرويها بدماءنا"، ويتداخل مع الجماهير الصارخة "الشارع لنا، احنا لوحدنا"في "عودة الأبن الضال". في نهاية "العصفور" صرخ الشعب "هنحارب"، لم يستوعب وزير الثقافة الذي منع الفيلم وقتها هذه الصرخة سوى بعد انتصار أكتوبر، فكانت موسيقى الفيلم هي النشيد الرسمي للنصر "راجعين، راجعين شايلين في إيدينا سلاح". وكان آخر فيلم اخرجه يوسف شاهين هو مشهد الثورة في "هي فوضى".

"ألف ليلة وتاني ليلة"

في أفلام "جو" التي كتبها بخط يده، كانت الناس حاضرة، "الف ليلة وتاني ليلة" كما كتب على غلافه، يحكي الفيلم عن شهريار الذي كره النساء وقرر الانتقام منهن بعد خيانة زوجته له. لم ينظر "شاهين" للملك القاتل نظرة سطحية، لم يراه خاطف للأرواح الجميلة، ولكنه رأى قلبه، رأي حزنه وخوفه ووجعيته التي أفقدته صوابه، فرسم النص شخصية شهرزاد كأمرأة مُحبة، تحكي القصص وتروي الحكايات لأنها أحبت الملك، لأنها أرادت أن تطيل أيامها بقربه، تحكيها بدافع عشقها له، لا بدافع الخوف منه، وينتهي الفيلم بمقتل "شهريار" بعد ثورة الجماهير ضده، ينتهي بصرخة حق تطالب بالانتقام منه، بعدما كسر قلوب العائلات حزنًا على فلذات أكبادهن، أما "شهرزاد" تنتحر باكية على حب عمرها.

رأى "الأستاذ" ألف ليلة وليلة بطريقة لم نعتد عليها، رآها بنظرته الخاصة، وأراد أن يصل بها للجمهور. من المرجح أن هذا الفيلم لم ينفذ لتكلفته الإنتاجية الضخمة، خاصة أنه كُتب بطريقة الزجل وكان من المفترض إن يكون فيلم غنائي، لا نعلم من كتب الفيلم مع "شاهين" الذي لا يجيد اللغة الشعرية، ربما صلاح جاهين، ربما شاعر لم نسمع عنه، ولكنه كان يحمل بصمة خاصة، ويحوي الفيلم قصة "دنيا زاد" اخت "شهرزاد" وحبها لـ "علي"، السيناريو حوالي 120 صفحة، 100 منهم قبل حكايات شهرزاد، 100 منهم يحملون رؤية لم يراها غير "جو".

فيلم "حليم"

"عارف الواحد  بيقابل مين في آخر الرحلة؟ بيقابل نفسه" هذه الجملة التي يقولها "محمود" في نهاية فيلم "الاختيار" الذي كان من المفترض أن يلعب دوره "عبد الحليم حافظ" ولكن أتمه شاهين بعزت العلايلي، وظل يخطط لإخراج فيلم من بطولة "حليم" فاكتفى بكتابة اسمه على الغلاف دون أن يضع اسم نهائي لمشروعه القادم. يحكي السيناريو عن "شريف" مذيع برامج فاسد أشبه بحال مصر في السبعينات، يخضع للمحسوبية وينقاد وراء حلم الشهرة، حتى يستضيف طفل يتيم في برنامجه ليكتشف بعد ذلك أنها خدعة من الإعداد، خلافات مع الإذاعة يقرر بعدها المذيع الهرب من مصر والهجرة كحل نهائي. يواجه المذيع الفاسد نفسه كما واجه "محمود" نفسه في الاختيار، يواجه نفسه فيهرب تاركًا وراءه ماضيه الملوث. يواجه نفسه بالحقيقة التي واجهته بها حبيبته: "طول مالكدب مش مفضوح، ومش ملموس هما ممكن يقبلوه". كان من المفترض إن يصاحب "حليم" في بطولة هذا الفيلم أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام بشخصيتهما الحقيقية، ولكن لم يتم المشروع.

هاملت الإسكندراني

أوراق مبعثرة ومقتطفات من سيناريوهات غير مكتملة أو مكتملة بشكل آخر. كان يوسف شاهين يكتب بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وكما ذكر في حواراته الخاصة، أن العربية للحوار، والإنجليزية للدقة، والفرنسية للمشاعر. تعرف خطه من تداخل لغاته، وزحمة حروفه، كتلك الأفكار التي كانت تتنازع بداخله. أقرأ كلماته وفي ذهني صورته وهو ينفخ دخان سيجارته كأنه يعبر عن احتراق روحه. 40 فيلم ولم يحقق كل ما بداخله، "مات وفي نفسه شئ من هاملت"، مات وهو يحلم به ليلًا نهارًا.

يعلم جميع من تابع مسيرة "جو" أنه كان يحلم بتقديم "هاملت" كما يراه، أو كما وضع عنوانًا للسيناريو "هاملت الإسكندراني"، في هذا الفيلم أطلق "شاهين" على هاملت اسم "يوسف" وكأنه يعبر عن هواجسه التي تطارده منذ إن كان طالبًا في فيكتوريا كوليدج بتجسيد شخصية شكسبير. "يوسف" في السيناريو الشاهيني هو ابن حاكم عربي يشبه عبدالناصر في حبه للحق والخير والعدل -كما وصفه شاهين-، يسافر "يوسف" للخارج ويعلم بمقتل والده، فيعود ليكتشف أن أمه تخطط للزواج من عمه، ويأتيه شبح أباه ليخبره أن عمه هو من خطط للاغتيال، يحارب "هاملت" لأجل الحق والخير ولا ينتهي الفيلم.

وفي سيناريو آخر لهاملت، صور "شاهين" قصة عمره من خلال مخرج يحلم بتقديم شخصية "هاملت"، يحلم ويحلم ولا يتم الفيلم، في حوار أجراه يوسف شاهين مع سمير فريد وجمعه الأخير في كتاب لحواراته، يقول "جو": "هاملت يتردد لأنه شريف، لأنه يبحث عن الحقيقة، لأنه يريد أن يقنع الآخرين، هاملت يوجد في كل أفلامي، لأنه لم يفارقني أبدًا، والفيلم الذي أكتبه عن هاملت ليس "إسكندرية ليه" ولا "حدوتة مصرية"، ولا الجزء الثالث من ثلاثية حياتي، لكنه خلاصة كل الحياة وكل الأفلام وليس إسكندرية وحدوتة فقط، فيلمي الجديد عن حلم الفنان وحلم الحياة وعن الحياة كحلم". ربما كان هذا هو "هاملت الإسكندراني" وربما كان غيره، فالمخرج الراحل كتب أكثر من 20 تصور للرواية الإنجليزية، ألقى بإحداها من شباك سيارته. كان يتردد كهاملت ويبحث عن الحقيقة، كان يريد لهذا الفيلم أن يتوج أعماله كلها ويعبر عنه فلم يتمه.

فيلم "ندريس"

في تسجيل صوتي وُجد في المعرض، كان يوسف إدريس يتناقش مع "جو" عن فيلم جديد، ليخبره الأخير أنه يخاف إن يسكر، يخاف أن تغيبه الخمر فيحلم بكوابيس، يسأله الأديب عن ماهية هذه الأحلام، فيقول "كل يوم بقوم قلبي بيدق يا الشقة بتغرق، حاجات غريبة زي ما أكون عيل". ينتهي حديث الكوابيس ويبدأ الحديث عن الفيلم الذي تفهم من السياق أنه حدوتة مصرية، الذي كان من المفترض أن يكون عن عالم مصري يحصد نوبل لينتهي بأن يكون جزء من ملحمة سيرة ذاتية، ولكن العالم ظل حاضرًا في سيناريو يحمل اسم "ندريس".

سيناريو "ندريس" كُتب بعد واقعة حدثت لشاهين عندما ذهب للتكريم في مهرجان إيطالي عام 2004 فسكن في أحد البيوت القديمة، سكن "جو" هناك مع ماريان خوري ومساعده ناصر حيدر الذي كان يسكن بالطابق الثاني بجوار غرفة المخرج، أما "ماريان" فمكثت في الطابق الأول. كان "ناصر" يخاف من العفاريت ويتهيأ له سماع أصوات في الليل، وعندما أخبر "شاهين" بذلك في الصباح، وبخه وقال له "نادي ماريان تيجي"، وعندما عاد "حيدر" ليخبره أن ماريان ستأتي بعد قليل، سأله "شاهين" في استعجاب: "أومال مين اللي لسه قايلي صباح الخير يا جو؟"، هذه الحكاية كانت بذرة الفيلم الذي يحكي عن مخرج يأتيه عفريت يعده بأن يلبي له كل طلباته إذا خضع له لمدة سبع سنوات وأسلمه نفسه، ختم "شاهين" الفيلم بملحوظة أن السيناريو لابد أن يتغير ليكون بطله عالم مصري حاصل على جائزة نوبل، مثلما بدأت حكاية "حدوتة مصرية" في الأصل.

هذه اللحظة استحقت الانتظار 47 سنة

فيلم اجنبي يحمل عنوان To each his own cinema يحكي فيه 33 مخرج من مختلف أنحاء العالم عن السينما التي تدور في أذهانهم من خلال أفلام قصيرة، ويحكي يوسف شاهين عن سينماه الخاصة. 5 دقائق يصور فيهم "جو" نفسه وهو شاب صغير يجلس في قاعات عرض مهرجان "كان"، يتطلع بشغف لما كُتب عن فيلمه "ابن النيل"، جملة أو جملتان لا أكثر في الصحف الفرنسية، قطع سريع ونرى "شاهين" العجوز يجلس في حفل مهرجان كان 1997 أثناء الإعلان عن تكريمه عن مجمل أعماله، تلك اللحظة التي وقف فيها "جو" أمام الآف من المعجبين به، الآف يصفقون وزغرودة مصرية يسمعها عن بُعد، ليردد بعدها في مشهد سينمائي أن هذه اللحظة استحقت الانتظار 47 عامًا، هذه هي السينما بالنسبة لشاهين، عمر بأكمله قضاه ليحكي عن نفسه وعنا.

عمر عاشه "جو" من لحظة سفره من الإسكندرية ليصل إلى نيويورك، "يحيى" الذي يُحيي بداخلنا حبنا للسينما والحنين للوطن والخوف من المجهول، الخوف من اتساع عالم أمريكا وقسوتها، "يحيى" الذي جسده محسن محيي الدين وهو يحمل في عينيه أحلام وحزن وخوف وحب وشغف، حملهم "جو" من مصر إلى عالم السينما. صرخ "شاهين" أكون أو لا أكون" فكان، كان كما لم يكن أحد قبله ولن يكن أحد بعده. يقول في حواره مع فريد سمير عندما سأله عن أفلامه الذاتية: "يقولون عجوز وخرف وممسوس بالحب والتفاهم، عجوز نعم، ولكن احذروا أن تطلقوا على الحب والتفاهم تخريف، كل الأديان هي دعوة للحب والتفاهم مع الآخر، لا أخاف ولا أتردد في أن أقول إنها الإنسانية التي تشغلني، الإنسان هو الذي يعنيني". لن تتم أفلامه، لن يستطع غيره أن يصورها كما تصورها هو ولن يوجد ممثل كمحسن محيي الدين ليصور "هاملت"، "محسن" الذي أبكاه بعدما أنهى تصوير مشهد المسرحية في "إسكندرية ليه؟"، لن يوجد من حمل "هاملت" بداخله لسنوات وأغمض عينيه قبل أن يتم حلمه، وستبقى أعمال يوسف شاهين كقصص الحب العظيمة غير مكتملة.

"لم اعد استطيع أن أحكي حواديت، لم أعد أستطيع ماديًا أن أفكر في الفيلم كحدوتة، ما يشغلني هو ما أشعر به وأريد أن أعبر عنه" يوسف شاهين.



 

Home
خروجات النهاردة
Home
Home